Wednesday, June 4, 2008

حيلة الآباء


حياة الآباء

سنوات الستينات كانت عصيبه على فلسطين كما كانت عصيبه ايضاً على كل البلدان في المنطقه ..... ما تزال البلد والناس يعيشون حياة البساطة والصناعات اليدويه......لم تصل الصناعات الحديثه واللاجهزة بعد الى مجتمعاتنا.....المجتمعات والدول من حولنا فيها الكثير من المال والعمل والصناعات.....يبدو اننا ما زلنا نعيش في العصور القديمه او انها كانت مرحلة انتقاليه .....تأخرنا فيها عن غيرنا من الدول بسبب الاحتلال او الانتداب او الوصايه سواء كانت انجليزية او اردنيه او غيرها......كما ان مجتمعنا كان يرفض التغيير والتحول خوفا من التطور ربما او خوفا من دخول الفساد الى بيوتنا ....عن طريق التغيير في نمط الحياه الذي تعودنا عليه والمتواصل بشكل مباشر مع تاريخ وديانات سماويه .....

الحرف اليدويه كانت سائده ومقبوله جداً ....او ان الناس كانت تعيش عليها كحرف موروثه من الآباء والاجداد ......

ابو سمير

عائله الحاج ابو سمير كانت قد عملت على تغيير شيء من تاريخ عائلتها الحرفي .....كانت مهنتهم وعبر الزمان هي تجارة الجبنه ....بيع وشراء وتخزين ........

ابو سمير تحول في مهنته الى صناعه الاحذيه الرجاليه والستاتيه على وجه الخصوص.......لان بيعها اصبح اسهل واوفر مالا في تلك الفترة.....لم يكن يوجد مصانع لصناعه الاحذيه......برزت في تلك الفترة فن المهن ....مهنه صناعه الاحذيه التي كان يتنافس عليها اصحاب المهن.....بالجمال والفن والعمر الطويل للاحذيه......

نجح ابو سمير بان يعمل على ايجاد اسم قوي لصناعته ......اصبح يستخدم اكثر من عشرة عمال لان صناعته توسعت واصبحت مشهورة جداً في مدينته .......الكثير من الاولاد كانوا يتواجدون في المحل ....لتقديم الخدمات لابو سمير او للعاملين عنده....تقديم الشاي ....تنظيف المحل او الورشه او المصنع....جلب الطعام.....قضاء الحاجيات الخاصه لابو سمير اوللعمال في الورشه......كان الاهالي يرسلون اولادهم الى تلك الورشات لتعلم المهنه وليس لتقديم الخدمات المجانيه فقط....

ابو سمير لم يكن متعلم بمفهومنا في هذه الايام.....لكنه كان قد انهى الصف السادس الابتدائي......ابو سمير قال ان التعليم في ايامي كان يتوقف عند الصف السادس فقط.....لا يوجد ما هو اكثر من ذلك.....ابو سمير كان الرجل المتعلم في تلك المنطقه.....المثقف....الواعي....كان متحدث راقي جداً كما لو انه المحامي او اكثر.....يتقن اللغه العربيه على اصولها....قارئ لكلمات الله بطريقه ملفته للانظار....كان واجب عليه وعلى افراد اسرته كل يوم جمعه ان يقرأوا سوره ياسين اربعين مرة ....فاذا كان عدد المجتمعين ثمانيه مثلا ....فان نصيب كل واحد منهم خمسة مرات ...كان في هذا اليوم كثيرا ما يردد الجمله التاليه....لكل شيء قلب...وقلب القرآن ياسين.....حافظ وقارئء لكتاب الله كما يجب .....عنده مقدرات اقناعيه لا توصف.....يحل مشاكل الناس بذكاء ودهاء الرجل الواعي......قوي الجسم...قصير القامه ....الناس يهابونه بسبب قوته الجسديه.....كان يستغلها في جلب الاحترام .....

يقدر المواهب عند القوي والضعيف......عمل على تعليم اخواته البنات في تلك الفتره......من غير الطبيعي ان نسمع عن تعليم بنات في ذلك الوقت.....لكن ابو سمير كسر الحواجز وعمل على تعليم اخواته البنات .....واعتقد ان اخواته يعتبرن من اوائل البنات المتعلمات في تلك المدينه......كان يتقن اللغه الانجليزية وبطلاقه.......يحفظ الاشعار باللغه الانجليزية والعربيه ......

سمير لم يكن مثل ابيه على الاطلاق .....كان عكس ابيه تماماً ....لا يحب العمل ....يحب الحديث فقط...ولا يتقنه ....عمل على تعليمه كل ما يعرف....دون جدوى......قربه من مهنته ومن نفسه....كان دائما بعيد جداً .....عمل على ارساله الى خارج البلاد ....الى الكويت لكي يجد نفسه ربما هناك.....كانت النتائج كما هي ....ليس هناك اختلاف....لقد كان الناس في تلك الفترة يسعون للوصول الى الكويت بكافه الوسائل....منهم من خسر حياته في سبيل ذلك.....لكن سمير لم يفلح......لقد طردوه من هناك........بعد شهرين فقط ون وصوله........

النكسه

دخلت الماكينات الحديثه الى البلاد عن طريق المصانع بشكل عام والاحذيه بشكل خاص......ابو سمير لا يملك راس مال كافي لشراء مصنع او لكي يلحق بالركب الحضاري المتطور.....ابو سمير المسكين كان ينظر الى الاحذيه التي كانت تصنع في المصانع الحديثة.....وكان يشعر بالارتياح .....لان هذه الاحذيه لا يمكن ان تضاهي صناعته المتينه .....كان يشعر بالطمأنينه من هذه الناحيه او انه كان يعزي نفسه على الاقل.......المصانع كانت تصنع مئات بل الوف الاحذيه يوميا ....لكن ابو سمير لم يكن يصل بانتاجه اليومي لاكثر من عشرين حذاء في اليوم الواحد....اي انه لا يستطيع ان يجاري السوق او المصانع.....كما ان اسعارها كانت بعيده جداً عن اسعار الاحذيه اليدويه ....ابو سمير المسكين تضررت مهنته كثيراً ....بدأت نكسته في عمله وفي العامين معه .......الطلب على الاحذيه المصنوعه يدويا اخذ بالاضمحلال ........الى ان اختفت .....المسكين ابو سمير عمل على تسريح العمال لانه لم يعد قادر على دفع اجورهم .....

وبعد فتره ليست طويله اصبحت تلك المهنه لا تكفي لسد حاجياته الخاصة او حاجيات بيته .......توقف عن العمل دون ان يعرف كيف يتصرف......كان لديه القليل من المال استطاع ان يصمد به هو وعائلته لبعض الوقت.....الى ان جائت اللحظات القاسيه عليه وعلى اسرته......الافلاس بكل معنى الكلمه........لا يجد المال لكي يدفع فاتورة الكهرباء....لا يجد المال لكي يوفر الطعام لاهل بيته .....لا يجد المال لكي يشتري حليب لاطفاله الصغار ......وكان آخرهم عمره اشهر فقط ....كان لا يقبل حليب امه دائما او انه كان فجعان .....المسكين الصغير كانت صحته جيده جداً او ممتازه .....وبحمد من الله ان صحته وبالرغم من قله الحليب كانت دائما ممتازة ....او انها كانت تسير للاحسن بقدرة الله سبحانه وتعالى.....المسكين ابو سمير كان حائر على نفسه وعلى عائلته ....كيف يتصرف ...ماذا يستطيع ان يعمل في اوضاع سيئه جداً عليه وعلى كل البلاد ....لا يوجد عمل ....لا يوجد مال.....حتى ان اقرب الناس ابتعدوا عنه بسبب سوء حالته الماديه .....لم يجد في تلك الفترة سوى الدعاء الى الله.....كان يدعو في الصباح وفي المساء.....

استمرت هذه الحاله لاكثر من عام ....عام قاسي جداً على ابو سمير وعلى زوجته وعلى اطفاله .....

ابو سمير فقد احد ابنائه في تلك الفتره.....محبوبته الصغيره هويده.......المسكين كان يعتقد ان سوء الحال هي السبب ....ربما بسبب سوء التغذيه ربما بسبب هذا او ذاك.....كان يبكي على محبوبته ليلا دون ان يراه احد.....

الفرج

سمع ابو سمير الخبر ....لم يصدق نفسه......احد اقربائه الاغنياء قد مات........هل يحزن او يفرح.....لم يعد يدري .....المسكين ابو سمير قال .....رحمه الله....الحي افضل من الميت.......

المرحوم لم يكن له ابناء .....كان له زوجه فقط......وقد ماتت منذ زمن طويل جداً..........امواله اصبحت ملك لاسرته .....ابو سمير كانت حصته كبيره جداً في ذلك الوقت......700 دينار اردني ......جاء الفرج....هكذا قال ابو سمير .....

ابو سمير الحكيم توقف كثيرا امام هذا البمبلغ ....لانه كان متاكد تماماً ان المرحوم يعتبرالغني الوحيد في العائله ....وان هذه الفرصه لن تتكرر مرتين على الاغلب.....

ابو سمير يعتبر خبير في الاحذيه وصناعتها وبيعها.....ان اي مغامرة غير محسوبه في ذلك الوقت سوف تكون كارثه عليه وعلى عائلته.......قرر ان يتريث قليلا قبل ان ينطلق......لا يمكن ان يعود مرة اخرى الى نفس المكان الذي خسر فيه امواله وورشته ....لان الاسباب لم تتغير ولم تختلف بعد.....قرر ان يعمل بنفس المجال ....لكنه يريد ان يغير المكان ......

اختار مدينه اربد ...كان يعرفها منذ زمن طويل ....او ان التجاره كانت مفتوحه بينها وبين مدينته عبر التاريخ.....

ذهب الى هناك .....شاهد الاسواق.....تعرف على الناس والتجارة......اعجبه المكان.......

تأجر دكانين متلاصقتين مع بعضهما البعض...ودفع العربون .....كان سعيد جداً بهما......روحه كادت ان تعود له من جديد او انها بالفعل قد عادت ......عدا يتنفس من جديد .....كان يقول كلمه واحده فقط........الحمد لله......

عاد الى مدينته من جديد لكي يخبر اهله بما حصل معه .....ولكي ياتي بالمال اللازم ليشتري البضاعه ...ويأخذ العمال الذين كانوا يعملون عنده من قبل......عمل على ترتيب كل شيء .....العمال كانوا سعيدين جداً بعودتهم الى العمل من جديد ....لانهم ومنذ ذلك الوقت لم يعملوا شيء......كانوا عاطلين عن العمل منذ سنه او اكثر.....

المذبحه

قرر الذهاب الى هناك قبل العمال للتحضير وشراء اللوازم للورشه......اخذ معه المال وانطلق.......

وصل الى مدينه اربد عند الغروب......لم يكن يعرف ان هناك قطاع للطرق او لصوص......كانوا يعرفون موعد وصوله .....كانوا بالنتظاره.... كان عددهم خمسه.......قرب المقبرة ليلا.....كانوا جميعاً من عائله العفوري..... عائله فلسطينيه عريقه.....يا للعجب .......كانوا يحملون السكاكين ....احدهم كان يحمل مسدس.......ابو سمير المسكين لا يحمل سلاح .....الا انه دائما ما يحمل سكين قطع الاحذيه .....لا يحملها للقتال ....انما لكي تدل على مهنته.....الناس في ذلك الوقت كانوا يفعلون هذا ......كانت سكين حاده جداً ....راسها معقوف من الامام .......

طلبوا منه التوقف في وسط المقبره .....شعر ابو سمير بالخوف على اولاده وعلى تجارته......

اخرج السكين وحملها بيده ......الليل كان دامس......لم يلاحظ احد منهم انه يحمل سكين......سئلوه عن المال ......قال لهم انه لا يحمل مالاً ......طلبوا التفتيش .......سمح لهم طبعاً......اقتربوا جميعاً مرة واحده لتفتيش ابو سمير......

ابو سمير قال ....كل ما اتذكره في تلك الساعه هو كلمه يا الله .....وبدأ يضرب بهم يميناً وشمالاً ......كما لو انه كان يقطع الجلود.....او هكذا شعر ابو سمير......كان يحدثني عن تفاصيل القصه بعد مرور عشرين عاماً على احداثها......قال لي ....انا كنت اقف هنا ....بجانب هذا القبر ......جائوا من هذه الناحية.....الرجل الذي كان يحمل مسدس كان يقف هنا .....كان اول من بدأت به ....لانه كان الاخطر علي ......كان هناك صراخ واصوات ....صراخ الم .....صراخ حقد احيانا.....صراخ موت احياناً اخرى.....صراخ حسره ....مضت خمسه دقائق او عشرة ربما .....هكذا قال ابو سمير .....بعدها عاد هدوء المقبره......جميعهم كانوا على الارض......بعضهم بدون صوت او حركه.....بعضهم كان يئن.....بعضهم كان له صوت الشخير......احدهم كان يوحد الله .....غريب.....

ابو سمير لم يتابع طريقه.......قال في نفسه .....ان رزقتي ليست في هذه البلد .....عاد من حيث اتى في تلك الليله....ترك المحلات ...لم تكن خسارته كبيره في تلك المحلات .....لانه كان قد دفع فقط عربون ولم يدفع المبلغ الكامل بدل الايجار.....

عاد الى مدينته ...انتظر سماع الاخبار.....مضى الاسبوع الاول ......لم يسمع شيء كما لو ان شيئ لم يحصل....انتظر الاسبوع الثاني ولم يسمع شيء....والثالث والرابع .......مل من الانتظار ......ابو سمير ارسل احد الاشخاص الى اربد للسؤال والتحري.......يبدو ان عائله العفوري كانت فعلا عائله عريقه.....كانت لا تقبل تصرفات مجموعه ضاله من بينها ....كان هناك قبل فترة بيت عزاء لثلاثه اشخاص......وان اثنين موجودين في احد المستشفيات ....حالتهم ما زالت في الخطر......السبب كان انفجار لغم ارضي قرب المقبرة .......

هكذا قالت عائله العفوري ......ارادت اخفاء الموضوع ..........

ابو سمير شعر بالارتياح لسماعه تلك الاخبار.........قرر الانطلاق من جديد.....لكن الى اين هذه المرة......

الى مدينه جنين.........قرر الابتعاد عن الاحذيه......لان فيها نحس.....هكذا قال ابو سمير.......

عند وصوله الى مدينه جنين ....التقى باحد الاشخاص الذين كان يعرفهم ويحبهم ابو سمير......كان من احد جيرانه في السابق .....يعرف والده واخوته وعائلته بالكامل....قدم عرض جيد لابو سمير بان يدخل معه في شراكه في محل للحلويات الشرقيه ...ابو سمير تململ قليلا ....لان هذا الشخص من عائله العفوري.....

ابو سمير .....ذهب لاستشاره احد الذين يثق بآرائهم......ام سمير.........

ام سمير قالت هؤلاء اولاد اصول .....لا تقلق من ناحيتهم.....كما ان القلائل فقط الذين يعرفون بموضوع المذبحه او السرقه....قد اخفوا الموضوع حتى عن باقي افراد عائلتهم ......من اجل السمعه طبعاً.......

ابو سمير توكل على الله ....واصبح شريك في محل الحلويات......كان الوقت حينها 1965

ابو سمير لا يحب الشراكه......يحب ان يكون وحده في العمل......دفع ما تبقى من المال لشريكه ......واصبح المالك الوحيد للمحل.....لقد كان المحل الوحيد في مدينه جنين.......الارزاق تدفقت على ابو سمير......عند الوصول الى العام 1970 ابو سمير قرر ان يفتح محل ثاني للحلويات في تلك المدينه......ابو سمير اشترى ارض ......ابو سمير بنى بيت جميل جداً في مدينه جنين.....ابو سمير بنى عماره سكنيه كبيره في مدينته .......ابو سمير ارسل احد اولاده لدراسه الطب في الخارج......ابو سمير زوج اولاده الكبار .....زوٌج بناته ...........ابو سمير عادت له الحياه ......

ابو سمير كان يعتبر نفسه قاتل على الرغم من ان كل القوانين الارضيه والسماويه تسمح له بان يفعل ما فعل .....اخذ على نفسه نذرا بان يقوم بحجه مقابل كل روح ازهقها .....وبالفعل ....ابو سمير زار بيت الله ثلاث مرات....بعدد الارواح التي ازهقها في دفاعه عن نفسه وامواله واولاده .....

ابو سمير كان يشعر بالم في صدره.....او كما كان يقول ....اشعر بحجر كبير يقعد فوق صدري.....

كان ابو سمير يعالج الالم بقرائة القرآن ....طلبت منه ان يذهب الى المستشفى للفحص او للعلاج.....

ضحك ابو سمير ....او تبسم......لا زلت اذكر تلك البسمه الجميله.....بسمه ابو سمير كانت مميزة......فيها الكثير من الذكاء والدهاء.....لم تكن بسمه طبيعيه ابدأ......قال ابو سمير .....لا اريد ان اموت على فراش المستشفيات......اريد الموت مثل الاشجار.....وانا واقف......

فعلا .....تحققت امنيته.....كان يسير في صباح يوم من ايام الصيف الجميل ....يحمل بيديه صحن الحمص وصحن الفول ....كان عائد الى بيته.....سقط ابو سمير على الارض .....مات ابو سمير......رحمه الله .....

حاولت ان احصل على تلك السكين .....لم استطع .....لان سمير له ذكريات معها كما يقول.....واحتفظ بها لنفسه......ما زلت اساومه الى يومنا هذا على تلك السكين.....ما زلت متفائل الى يومنا هذا ان هذه السكين سوف تكون معي انا وليست مع سمير.......لي الحق بها....او هكذا اشعر لاني كنت الصديق المقرب لابو سمير......

No comments: